لحسن الكيري[1]
لعل أول نظرية في الأدب ظهرت في التاريخ الإنساني المكتوب هي “نظرية المحاكاة” [2]Mimesis في القرن الرابع قبل الميلاد، والتي نجد أصولها ومبادئها عند الفيلسوف أفلاطون، وبلورها وأتمها من بعده تلميذه أرسطو.
وهكذا يرى أفلاطون – انطلاقا من فهمه للشعر أو العملية الشعرية من مرجعية الفلسفة المثالية التي ترى أن الوعي أسبق من الوجود المادي – أي الوعي يسبق ما هو محسوس، أن أسمى الغايات التي يبحث عنها الإنسان هي معرفة الحقيقة؛ و تكون للفن لديه أهمية بقدر ما يقدمه من معرفة بهذه الحقيقة. وعليه، فالفن في فلسفته محاكاة للموجودات الحسية، محاكاة للطبيعة. وبهذا فهو لا يقدم معرفة حقيقية لأنه يحاكي أصولا معروفة قائمة وهي “المثل”.
و“المثل” هي الصور الخالصة لكل الموجودات وهي النماذج الحقيقية والمطلقة والمتسمة بالثبات والتمام والكمال. فمثلا، إن ” …لكل الطاولات ماهية نوعية أي جوهر ذاتي يتحقق كمالها في الطاولة النموذج و درجة الإتقان في صنع طاولة واقعية محكومة بمدى اقتراب صانع هذه الطاولة من المثال الخالد والنموذج الكامل”.
وهكذا تبدو هذه الطاولة وقد شوهت مرتين: مرة عند صناعة النجار لها ثم عندما رسمها المصور مرة أخرى على شكل خيالات و ظلال للصورة المشوهة التي ظهرت في صناعة النجار. يبدو إذن أن الفنان، حسب أفلاطون، يرتب في المرتبة الثالثة بعد الخالق الحقيقي على مستوى التمثل و بعد النجار بعد أن حاكى “المثل”.
وبذلك فالفنان يقوم بمحاكاة المحاكاة أي تقليد التقليد.
وبناء على ما سبق، يمكن أن نفهم هجوم أفلاطون على الشعر و الشعراء و نفيه لهما من “مدينته الفاضلة”؛ إذ إن غاية أهل هذه المدينة معرفة الخير و الوصول إلى أن تكون أفعالهم خيرة فاضلة. و الفن ومنه الشعر، طبعا، لا يعمل على تحقيق هذه الأهداف لأن طبيعته “المحاكاتية” طبيعة شائنة، ناقصة ومشوهة؛ و بذلك يبعد الناس عن معرفة الحقيقة بخداعهم وتقديمه لهم الزيف و الخيالات. و هكذا جعل أفلاطون في نظريته الموجود الموضوعي غير حقيقي.
و إذا انتقلنا إلى وظيفة “الفن” عنده نجده يختزله في تقوية العواطف و جعلها جافة لدى المتلقي لكي تعطينا إنسانا قويا يبحث عن الحقيقة. و لما كان الشاعر، باعتباره فنانا، يؤجج عواطف قرائه و يجعلها رقيقة ناعمة، فإنه يبعدها عن العقل، و نحن نبحث عن الحقيقة بعقولنا لا بعواطفنا. لذلك فإن “التراجيديا” أي المأساة، في نظره، تنمي عاطفتي الشفقة والخوف، و الشفقة تمثل عاطفة الإنسان إزاء الآخر و الخوف يمثل عاطفة الإنسان إزاء نفسه، و هما أصول العواطف الإنسانية ومنابعها.
ولما كانت “التراجيديا” أي المأساة تنمي هذين العاطفتين فإنهما تجعلان المشاهد خائفا وحزينا، مما ينتج عنه استسلامه للعواطف والانفعالات وابتعاده عن استعمال آليات العقل. إن العواطف القوية في نظر أفلاطون هي التي تستجيب لنداء العقل وليست العواطف الناعمة. ثم بحث أفلاطون في مصدر الشعر هل هو ذو طبيعة بشرية أم ذو طبيعة خارجة عن تجارب الإنسان وقدراته المكتسبة بالدربة والتمرن، فوجد أن مصدره مرتبط بقوى خارجية تربطه بـ”الإلهام” و “الوحي” اللذين تجود بهما آلهة الفنون عند اليونان ألا وهي أبولوApollo.
الأسئلة:
ما الذي يميز الأدب؟ هل اللفظ أم المعنى؟ الصورة أم الإطار الجمالي؟ الفكرة أم أسلوب العرض؟
أم أن العمل محاكاة؟ ما المحاكاة؟ ولأي شيء هي؟ هل العمل الأدبي محاكاة للظواهر الحسية أو للانطباعات الذهنية أم لكليهما؟
وإذا كان العمل الأدبي مرآة كما يتردد – منذ أفلاطون – فهل هو مرآة للأشياء؟ أم لعقل الأديب؟ أم لنفسه، أم مرآة للوسط أو للمجتمع؟
ثم ما طبيعة تلك المرآة (هل هي مستوية، أم محدبة، أم مقعرة) وإذا كان الأدب صورة كما يُردد آخرون، فهل هو صورة لحياة الأديب أم لانفعاله، أم صورة من صور التعبير عن الخيال؟ أم صورة للعلاقات الاجتماعية؟
[1] كاتب وباحث في الترجمة والتواصل- المغرب.
Imitation ترجمت إلى الإنجليزية بـ [1]
0 التعليقات: